اكتشف طبق "التقلية" المغربي الأصيل
لا يمكن الحديث عن المطبخ المغربي دون التوقف عند أطباقه النادرة الخفية، تلك التي لا يعرفها الزائر العادي لكنها تُعبّر عن روح الأصالة الشعبية و الحضارة المغربية العريقة.
![]() |
طبق "التقلية" على نار الفحم التقليدي |
من بين هذه الأطباق، تبرز "التقلية" كوجبة قوية النكهة، مرتبطة بطقوس وعادات راسخة في عمق الثقافة المغربية.
يُعرف هذا الطبق في مختلف المناطق بأسماء مختلفة مثل "الدوارة" أو"الكرشة"، وهو يُحضّر أساسًا من أحشاء الأضحية، كالرئة والكبد و المصران و الشحم، و دلك بعد تنظيف دقيق وتتبيل خاص، وعلى عكس ما قد يظنه البعض، فإن "التقلية" ليست مجرد وجبة معتادة خصوصا في يوم عيد الأضحى، بل هي طقس جماعي، يُمارَس بشغف، و تحرص العائلات على تحضيره بين الحين والآخر بل هناك من يعشقه كأفضل طبق، و هو طبق تراثي تتناقله الأجيال تجسيدا لترسيخ التقاليد المغربية الأصيلة.
ما يثير في طبق "التقلية" ليس فقط مكوناتها، بل اللحظة التي تُطهى فيها عادة هي صبيحة يوم عيد الأضحى، حيث تعبق الأزقة بروائح الكامون والثوم، وتتعالى ضحكات العائلات حول القدور التقليدية، إنها وجبة تلتصق بالوجدان قبل المعدة، وتمنح الزائر نافذة على مغربٍ عميق، صادق، لا تلمسه السياحة السطحية.
أصل طبق "التقلية" ومكانته في الثقافة المغربية
ترتبط "التقلية" المغربية بتاريخ طويل يرتبط باحترام نعمة الله واستغلال خيرات الأضحية إلى أقصى حد، فقد نشأ هذا الطبق من ثقافة المطبخ القروي الذي لم يكن يعرف التبذير، وكان يُحوّل كل جزء من أضحية العيد إلى طعام متكامل شهي و غني بالطاقة، وعلى مر العقود، لم تفقد "التقلية" مكانتها، بل أصبحت طبقًا احتفاليًا موسميًا يُنتظر بشوق، لا سيما خلال عيد الأضحى.
في الحواضر مثل الدار البيضاء وفاس، كما في القرى والأرياف، تُشكّل "التقلية" طقسًا اجتماعيا بامتياز، و لا يقتصر تحضيرها على الطبخ فحسب، بل يمر عبر طقوس تبدأ من الغسل والتنظيف الجماعي للأحشاء، مرورًا بتقطيعها بدقة، ثم تتبيلها حسب "سرّ كل بيت"، كما تُعتَبر فرصة لتلاقي أفراد العائلة حول مهمة واحدة، ما يجعل منها طبقًا حميميًا يربط بين الأجيال ويُرسّخ الذاكرة الجماعية.
طقوس "التقلية": من طهارة الأضحية إلى طقوس الجماعة.
لا تُعدّ "التقلية" مجرد وجبة تُطهى على عجل، بل هي جزء من طقس جماعي متوارث يُمارَس بكثير من التقديس والانضباط، حيث يبدأ التحضير مباشرة بعد الانتهاء من مراسيم الأضحية صباحا، فتُجمع أحشاء الخروف وتُنقل بعناية إلى نساء البيت أو الرجال حسب المنطقة، ثم تبدأ مرحلة الغسل التي تُعدّ بحد ذاتها طقسًا شبه ديني، يتم فيه تنظيف "الدوارة" من كل رواسبها، باستخدام الملح، والخل، وأحيانًا الرماد الساخن.
بعد الغسل، تأتي مرحلة التقطيع الدقيقة، إذ يتم فصل الكرشة عن الرئة والكبد والقلب، و يتم التعامل مع كل جزء كأن له رمزية خاصة، و يتم تلفيف قطع من الكبد مع القلب بقط من الشحم الرقيق و يتم تحميصها على الفحم الى أن ينضج و يتم تقديمه مع كؤوس الشاي و هو ما يعرف حسب الماطق "بولفاف" أو "الزنان" ...، بينما تُطهى باقي أحشاء الأضحية "التقلية" في قدر مليء بالتوابل والروائح القوية، و في هذه اللحظات، يتجلى الجانب الجماعي للمائدة المغربية، حيث يجتمع الكبار والصغار، في مشهد من التعاون والبساطة والفرح الممزوج بعبق التاريخ.
مكونات "التقلية": توليفة من الأحشاء والتوابل القوية
تقوم "التقلية" المغربية على مكونات بسيطة لكنها تحتاج إلى دقة كبيرة في التعامل معها، و أهم العناصر هي الأحشاء أو ما يعرف ب "الكرشة" أي (بطانة المعدة)، مع بعض القطع من الرئة، و الكبد، و القلب، و القليل من الشحم الداخلي، حيث بعد تنظيفها جيدا و تتبيلها بعد أن تم تقطيعها إلى مكعبات صغيرة متساوية، تُطهى على نار هادئة و يكون دلك غالبا على نار الفحم التقليدي لكي تتشرب النكهات كاملة و تنضج بصفة كاملة، و هو ما يمنح الطبق قوامًا غنيًا ولذة متوازنة.
![]() |
مكونات طبق "التقلية" |
أما التوابل، فهي سر النكهة المغربية العميقة، حيث يتم استخدام الثوم المدقوق، الكمون، الفلفل الأحمر الحلو والحار، الزنجبيل "السكنجبير"، الكركم، والملح، مع القليل من عصير الليمون أو الخل لتعديل الطعم، و يتم مزج هده المكونات و تحضيرها عادة إما بزيت الزيتون أو السمن البلدي، مما يمنح الطبق طابعًا دسمًا ومغذيًا، مع رائحة لا تُخطئها الأنف، كما أنه في بعض المناطق، يُضاف اليها قليل من الحمص أو قطع من الطماطم المركزة لإغناء القوام.
جدول مكونات "التقلية" المغربية (الدوارة)
المكوّن |
الوظيفة
في الطبق |
ملاحظات |
الكرشة
(بطانة المعدة) |
أساس
القوام والنكهة |
تُقطع إلى
شرائح صغيرة بعد التنظيف |
الرئة |
عنصر خفيف
يوازن بين الطراوة والوزن |
يُنصح
بسلقها أولًا |
الكبد |
تعزز الطعم
الغني والدسم |
تُحمّص
أحيانًا قبل الإضافة |
القلب |
يُضيف
قوامًا متماسكًا |
يُقطّع إلى
مكعبات صغيرة |
الشحم
(الودك) |
يُستخدم
للتسبيكة والدهن |
يختلف حسب
الذوق |
الثوم
والكمون |
توابل
أساسية للرائحة والطعم |
تُستخدم
طازجة ومطحونة |
الفلفل
الحلو والحار |
لتعديل
درجة الحرارة والنكهة |
حسب الذوق
والمنطقة |
زيت
الزيتون / السمن |
مادة الطهي |
يمنحان
نكهة مغربية خالصة |
طرق التحضير: خطوات دقيقة ومذاق لا يُنسى
تحضير "التقلية" يحتاج إلى صبر وحذر، فالخطأ في التنظيف أو الطهي يُفسد الطبق بالكامل، و تبدأ العملية بغسل الأحشاء بعناية باستخدام الملح، الخل، أو حتى الرماد الساخن، وتُكرّر العملية مرات متعددة حتى تزول الروائح غير المرغوبة تمامًا، ثم بعد ذلك تُسلق المكونات في ماء مغلي لتسهيل التقطيع وضمان الطهي الكامل، ثم تُصفّى وتُترك لتبرد قبل إضافة التوابل.
في المرحلة الثانية، تُحمّر الأحشاء في قدر على نار متوسطة بزيت الزيتون أو السمن، مع الثوم والبهارات، ويُضاف القليل من الماء الساخن لتكوين صلصة كثيفة.
تختلف طريقة التحضير قليلًا حسب المنطقة، فالبعض يفضل طهيها على نار هادئة في طاجين تقليدي، بينما يفضل آخرون قليها حتى تُصبح جافة ومقرمشة، لكن في كل الحالات تكون النتيجة واحدة و هو طبق شهي يفتح الشهية ويُثير الذكريات.
اختلاف التسميات حسب المناطق: تنوع يعكس غنى المطبخ المغربي
رغم أن مكونات "التقلية" تبقى متشابهة في مختلف أرجاء المغرب، إلا أن أسماءها تختلف بشكل لافت حسب المدينة أو الجهة، ما يُظهر عمق الانتماء المحلي لكل منطقة، ففي الشمال يُطلق عليها "الدوارة"، بينما يُعرفها أهل مراكش و الدار البيضاء باسم "التقلية"، وهو الاسم الأكثر شيوعًا في الأوساط الشعبية، أما في الشرق، فتُعرف بـ"الكرشة"، في إشارة إلى مكونها الرئيسي.
هذا التنوع في التسمية لا يعكس فقط الاختلاف اللغوي، بل أيضًا بعض الفروق في التحضير والتوابل المستعملة، حيث أنه في المناطق الأمازيغية، مثل الأطلس أو سوس، يُطلق على الطبق أحيانًا "تجّاجين"، ويُطهى في الطاجين الفخاري مع الأعشاب الجبلية، بينما في فاس مثلا قد تجد نسخًا أكثر بساطة تُقدّم في اليوم الثاني من العيد، وتُرافق غالبًا بخبز الشعير و الشاي الأخضر.
جدول التسميات المحلية لطبق "التقلية" حسب المناطق المغربية
المنطقة /
المدينة |
الاسم
الشائع للطبق |
ملاحظات
مميزة |
الدار
البيضاء |
التقلية |
الأكثر
شيوعًا في الحواضر |
الرباط
وسلا |
الدوارة |
غالبًا
تُطهى في قدر الضغط |
فاس ومكناس |
الدوارة أو
الكرشة |
تُقدم
أحيانًا باردة في اليوم التالي للعيد |
وجدة
والمنطقة الشرقية |
الكرشة |
تُحضّر مع
الحمص والطماطم المركزة |
مراكش
والنواحي |
التقلية |
تُطهى
غالبًا في طاجين وتُقدّم ساخنة |
سوس
والأطلس الكبير |
تجّاجين |
تُنكّه
بالأعشاب الجبلية والزيت البلدي |
شفشاون
وتطوان |
الدوارة |
تُطهى في
مرق خفيف وتُقدم مع الخبز البلدي |
هل تحب تجربة طبق "التقلية"؟ نصائح للسياح ومحبي المطبخ المغربي
إذا كنت من محبي الأطباق المغربية الأصيلة مثل الطاجين والكسكس، فلا بد أن تمنح لنفسك فرصة اكتشاف "التقلية"، هذا الطبق الشعبي الذي يحمل بين طياته عمق الثقافة والروح الجماعية للمغرب، حيث أنه و على غرار الطاجين، تعتمد "التقلية" على مكونات بسيطة لكنها تتطلب مهارة في التنظيف والتتبيل، وتقدم تجربة مختلفة تمامًا من حيث النكهات والقوام.
![]() |
طبق "التقلية" |
يُعتبر الكسكس من أشهر الأطباق المغربية وأحبها لدى الزوار، لكنه يُطهى غالبًا في أجواء عائلية يومية، أما "التقلية" فترتبط أكثر بالاحتفالات والطقوس الموسمية مثل عيد الأضحى، لذا فزيارتك للمغرب في تلك الفترة تعني فرصة لتذوق هذا الطبق الفريد في أجواء حميمية وتقاليد متجذرة، سواء في المطاعم الشعبية أو عبر الدعوة المنزلية، لتغوص في تجربة ثقافية لا تُنسى.
الخلاصة
المطبخ المغربي غني بتنوع أطباقه التي تعكس تراثًا ثقافيًا عريقًا وروح ضيافة لا مثيل لها، فإلى جانب أشهر الأطباق مثل الطاجين والكسكس والبسطيلة، تظل "التقلية" واحدة من الكنوز الشعبية التي تحمل في كل قضمة قصة العائلة، والتقاليد المغربية الغنية، والاحتفال العائلي، حيث أن هذا الطبق ليس مجرد وجبة، بل هو تجسيد حي للتاريخ والهوية المغربية، و فيه تتلاقى النكهات العميقة مع طقوس تحضير تجمع القلوب.
إذا كنت تبحث عن تجربة حقيقية للمطبخ المغربي، فلا تقتصر على تذوق الأطباق المعروفة فقط، بل اغتنم الفرصة لتذوق "التقلية" واكتشف طقوسها الغنية التي تعبر عن جانب أصيل من المغرب العريق، و بين مذاق الطاجين الدافئ وعبق الكسكس المُنكّه، تتألق "التقلية" كرمز للبساطة العميقة والاحتفال الجماعي، فتأسر الحواس وتبقى في الذاكرة.
في نهاية المطاف، كل طبق مغربي يحمل معه دعوة مفتوحة لاستكشاف ثقافة عريقة مليئة بالتنوع والجمال، و "التقلية" هي بالتأكيد واحدة من أجمل هذه الدعوات التي تستحق أن تكون جزءًا من رحلتك الذوقية عبر المغرب، و مناسبة أيضا لاستكشاف أجمل المناطق السياحية التي تسحر العيون بجمالها و تقاليد أهلها.