اكتشف خبايا أسوار فاس العريقة
تُعد أسوار مدينة فاس من أبرز المعالم التاريخية التي تجسد عراقة الحضارة المغربية الإسلامية، وقد شُيّدت لحماية المدينة العتيقة من الغزوات ولتنظيم حركة الدخول والخروج، و تمتد هذه الأسوار على طول عدة كيلومترات، وتضم مجموعة من الأبواب التاريخية التي لعبت أدوارًا أمنية وتجارية وإدارية عبر العصور، كما تعكس كل زاوية من هذه الأسوار طابعًا معماريًا فريدًا يجسد روعة التصاميم المرينية والعلوية المتعاقبة على المدينة.
ومن بين أهم هذه المداخل، يبرز باب بوجلود بقبّته الزرقاء المزخرفة كبوابة رئيسية لولوج قلب فاس القديمة، وباب فتوح الذي يحرس الجهة الشرقية للمدينة ويقود إلى أحياء نابضة بالحياة، و لم تكن هذه الأبواب مجرد مداخل، بل كانت رموزًا للسلطة، وشواهد حية على تطور النسيج الحضري لفاس منذ تأسيسها في القرن الثامن الميلادي، ولا تزال هذه الأسوار والمداخل تقف شامخة إلى اليوم، تجذب الزوار والباحثين وتمنح فاس سحرها الأصيل.
تاريخ أسوار فاس: متى بُنيت ولماذا؟
تعود بداية بناء أسوار فاس إلى القرن التاسع الميلادي، وتحديدًا في عهد إدريس الثاني مؤسس فاس، بهدف حماية المدينة الناشئة من الغزوات القبلية والحروب الإقليمية، ومع توسع المدينة في العصور اللاحقة، خصوصًا خلال الحكم المرابطي والمريني والعلوي، تم توسيع الأسوار وتدعيمها بالحجارة والطين "المدكوك" لتواكب حاجيات السكان وتطور البنية الدفاعية، و قد كان الغرض من هذه الأسوار يتجاوز الحماية العسكرية، ليشمل تنظيم الأحياء وتحديد نفوذ السلطات الحاكمة.
في فترة المرينيين، عرفت الأسوار تحسينًا كبيرًا، حيث تم بناء أبراج مراقبة وزُوّدت الأبواب بعناصر دفاعية مثل الأبراج المزودة بالسهام وأقواس الحراسة، و قد ساعدت هذه التحصينات في مقاومة التمردات الداخلية وموجات الغزو، كما أصبحت رمزًا لقوة الدولة وهيبتها في الغرب الإسلامي، وحتى اليوم لازالت تقف هذه الأسوار كشاهد على ذكاء التخطيط العمراني وروح الدفاع الجماعي التي ميّزت فاس عبر قرون من التاريخ.
الهندسة المعمارية لأسوار مدينة فاس القديمة
تتميز أسوار مدينة فاس العتيقة بهندستها المعمارية الفريدة التي تمزج بين الوظيفة الدفاعية والجمالية الزخرفية المستوحاة من الطراز المغربي الأندلسي، حيث شُيّدت الأسوار باستخدام الطين المدكوك (البيزاج)، والحجارة المنحوتة في بعض المواضع الحساسة، مع استعمال مواد طبيعية محلية تضمن التماهي مع بيئة المدينة، و يبلغ سمك الجدران حوالي مترين ونصف، وارتفاعها يصل إلى تسعة أمتار في بعض المقاطع، مما وفّر حماية فعالة ضد الغزوات والعوامل الطبيعية.
تضم الأسوار أبراجًا نصف دائرية تتوزع على طول الامتداد، تُستخدم للرصد والمراقبة، كما تخللتها فتحات للرماية وقنوات لتصريف المياه،و تبرز أيضًا الأبواب الرئيسية بأسلوبها المعماري الفاتن، المزخرف بالأقواس الحدوية، والقباب الصغيرة، والنقوش الهندسية الدقيقة، ما يعكس براعة الحرفيين التقليديين، وبهذا التصميم لم تكن الأسوار مجرد جدار فصل، بل كانت جزءًا نابضًا من هوية فاس التاريخية والمعمارية.
باب بوجلود: المدخل الأزرق الشهير لمدينة فاس
يُعد باب بوجلود أحد أشهر الأبواب التاريخية في مدينة فاس، بل وغالبًا ما يُعتبر رمزًا بصريًا للمدينة العتيقة، تم تشييده سنة 1913 خلال فترة الحماية الفرنسية، رغم أن موقعه كان يُستخدم كمدخل قديم للمدينة منذ العصور الوسطى، ما يميز هذا الباب هو واجهته الزرقاء المزخرفة بزليج فاسي تقليدي، في تناسق مبهر بين اللون الأزرق من جهة الخارج، الذي يرمز إلى فاس الحديثة، واللون الأخضر من الداخل، في إشارة إلى المدينة العتيقة وعراقتها.
باب بوجلود ليس مجرد مدخل فني بديع، بل نقطة انطلاق مثالية لاكتشاف فاس القديمة، حيث يؤدي مباشرة إلى شارعي الطالعة الكبيرة والطالعة الصغيرة، وهما من أشهر الشوارع التي تحتضن الأسواق التقليدية، والكتاتيب القرآنية، والمدارس العتيقة كـالمدرسة البوعنانية، و يعتبر الباب أيضًا نقطة التقاء بين الزائرين من مختلف الجنسيات، وموقعًا مثاليًا لالتقاط الصور، بفضل هندسته وزخرفته التي تخلّد عبقرية الصانع الفاسي.
باب فتوح: الحارس الشرقي لمدينة فاس التاريخية
يقع باب فتوح في الجهة الشرقية من المدينة العتيقة، ويُعتبر من أقدم وأهم أبواب فاس التاريخية، إذ يرجع بناؤه إلى عهد الدولة المرابطية في القرن الحادي عشر الميلادي، وقد حمل اسمه المميز " باب فتوح" رمزًا للنصر و الفتوحات، حيث كان مدخلًا استراتيجيًا للجنود والقوافل التجارية القادمين من شرق المغرب، كما أنه بفضل موقعه القريب من الأحياء الشعبية والأسواق التقليدية، ظل هذا الباب محورًا حيويًا للحركة الاقتصادية والاجتماعية في المدينة.
![]() |
زخارف و حجريات بوابات أسوار فاس |
يمثل باب فتوح أكثر من مجرد مدخل تاريخي، فهو يربط الزائرين بشرايين فاس القديمة، ويقودهم إلى مواقع بارزة مثل سوق الحناء، وساحة الرصيف، مرورًا بمدارس علمية عريقة، ومن خلاله يمكن الوصول بسهولة إلى قلب المدينة حيث توجد جامعة القرويين أقدم جامعة في العالم، التي تأسست سنة 859م، وما تزال تضيء الفكر الإسلامي والعالمي حتى اليوم، وفي الوقت الحاضر لا يزال الباب يحتفظ بأصالته، ويشكل نقطة جذب للمؤرخين والمصورين والزوّار من كل أنحاء العالم.
الفرق بين مداخل فاس الجديدة وفاس العتيقة
تمتاز فاس العتيقة بأبوابها التاريخية الضخمة مثل باب بوجلود وباب الفتوح، التي بُنيت لأغراض دفاعية وتنظيمية، وتُزيّنها الزخارف الإسلامية والأقواس التقليدية، هذه المداخل كانت تفتح وتغلق في أوقات محددة، وتُراقب بعناية من طرف الحراس، مما يعكس صرامة النظام الأمني والاجتماعي في العصور الوسيطة، إضافة إلى ذلك فقد كانت هذه الأبواب تفصل بين الأحياء، وتحافظ على خصوصية كل فئة من فئات السكان داخل المدينة المسورة.
أما فاس الجديدة، التي شيدها السلطان يعقوب المنصور الموحدي في القرن الثالث عشر، ثم توسعت لاحقًا في العهد العلوي، فتضم مداخل أكثر انفتاحًا وحداثة، مثل باب السبع وباب الخوخة، والتي تختلف وظيفيًا ومعماريًا عن مداخل المدينة القديمة.
لقد صممت أبواب فاس الجديدة لتخدم أحياءً إدارية وسكنية أكثر انسيابية وانفتاحًا على العالم الخارجي، ما يعكس انتقال المدينة من طابعها الدفاعي إلى طابع حضري مدني، وهكذا تقدم مداخل فاس نموذجين مختلفين من التخطيط العمراني عبر التاريخ المغربي.
الجولة السياحية حول أسوار فاس: ماذا ترى؟
تُعتبر الجولة حول أسوار فاس العتيقة تجربة ميدانية ساحرة، تنقلك في دقائق بين قرون من التاريخ المغربي العريق، حيث ينطلق الزوار عادة من باب بوجلود، و من هناك يبدؤون رحلتهم مشيًا على الأقدام أو عبر عربات تقليدية على طول الأسوار التي تطوّق المدينة القديمة، وفي كل مقطع تُصادف أبراجًا دفاعية، وأسواقًا نابضة بالحياة، ومساجدَ ومدارس عتيقة،لتشكل معًا فسيفساء حضارية نادرة في العالم الإسلامي.
تتيح هذه الجولة للزائر فرصة اكتشاف زوايا خفية من فاس مثل برج نقّارين، وأسواق النحاسين والدبّاغين، إلى جانب الوصول لأبواب مثل باب السمارين وباب فتوح ذات الأهمية التاريخية والعمرانية الكبيرة، كما تُطل بعض المقاطع المرتفعة من الأسوار على مناظر بانورامية تخطف الأنفاس، فتكشف لك امتداد المدينة بين التلال الخضراء والمآذن المرتفعة.
إنها رحلة لا تُنسى، تجمع بين الاستكشاف والتأمل، وتُشعرك بأنك تمشي بين فصول كتاب مفتوح عنوانه "فاس مدينة لا تنام على مجدها".
رمزية الأبواب في الثقافة المغربية وفن الزخرفة الإسلامية
تحمل الأبواب في الثقافة المغربية أكثر من مجرد وظيفة عمرانية، فهي رموز روحية وثقافية ترتبط بالهوية، و الحضارة و نظام للحماية، والعبور من عالم إلى آخر، ففي فاس و كما في باقي مدن المغرب العتيقة، تُجسّد الأبواب الحدود بين الفضاءات العامة والخاصة، وبين الصخب والسكينة، وتُعامل بكثير من الاحترام والتقدير، وغالبًا ما تُزيَّن هذه الأبواب بعناصر تقليدية تحمل دلالات روحية، مثل النجمة الثمانية، والكتابات القرآنية، وألوان الزليج التي ترمز للنقاء والسكينة.
أما من الناحية الفنية، فتُعتبر الأبواب المغربية تحفًا معمارية تُبرز براعة الصانع التقليدي في النقش على الخشب، وتوظيف الزليج والجبص والخط العربي في تكوينات هندسية بديعة، ويُعد باب بوجلود مثالًا حيًا على هذه الزخرفة الراقية، التي تجمع بين التناغم البصري والدقة الحرفية، حيث يُمزج الجمال بالرمز في كل خط وزخرفة، و هذا الإرث الفني لا يزال يُلهم المعماريين والمصممين حول العالم، ويعزز مكانة المغرب كمهد من مهود الفن الإسلامي الأصيل.
![]() |
منظر عام لمدينة فاس بأسوارها |
أفضل الأوقات لزيارة باب بوجلود وباب الفتوح والتجول في فاس القديمة
تُعتبر زيارة باب بوجلود وباب فتوح من أكثر التجارب السياحية إمتاعًا عند التخطيط لزيارة فاس القديمة، ويُنصح بالذهاب في الصباح الباكر أو قبل غروب الشمس، ففي الصباح، تشرق أشعة الشمس على الزليج الأزرق والبنايات العتيقة، مما يخلق أجواءً هادئة تناسب التصوير والتأمل، أما في فترة ما بعد الظهر فتزداد حركة الأسواق والأحياء، ويُتاح للزائر فرصة التفاعل مع الحياة اليومية للسكان المحليين والتمتع بالمهرجانات والفعاليات التقليدية.
خلال فصلي الربيع والخريف، يكون الطقس معتدلاً ومناسبًا للمشي والتنقل دون تعب، كما تتفتح الأزهار وتُضفي رونقًا خاصًا على شوارع المدينة وأزقتها الضيقة، و يُفضل تجنب زيارة المدينة في أوقات الذروة السياحية أو الأعياد الدينية الكبرى، حيث تزدحم الأبواب والممرات وتقل فرصة الاستمتاع بالهدوء، و بهذه التوقيتات يمكن للزائر أن يعيش تجربة فريدة تجمع بين سحر التاريخ وروح الحاضر في أزقة فاس القديمة.
الخلاصة
تُعتبر أسوار ومداخل مدينة فاس التاريخية من أبرز المعالم التي تجعلها واحدة من أحسن الوجهات المغربية السياحية التي لا بد من زيارتها للاستمتاع بجمال العمارة الإسلامية والتاريخ العريق، فبفضل هذه التحصينات التي تحيط بالمدينة، يستشعر الزائر عمق التاريخ وروح الأصالة التي تميز فاس عن غيرها من المدن المغربية، حيث يتداخل الماضي مع الحاضر في لوحة فنية متجددة، حيث أن زيارة هذه الأسوار وأبوابها العتيقة تغوص بك لتنغمس في تجربة ثقافية وتراثية فريدة تغذي الحواس وتفتح أبواب المعرفة.
ولا يقتصر الأمر على الجدران الحجرية فقط، بل تُكملها تقاليد فاس العريقة التي تنبض في كل زقاق وسوق وحارة، من الحرف اليدوية إلى الفنون الشعبية، ومن المطبخ التقليدي إلى الاحتفالات الدينية والثقافية.
إن زيارة فاس هي رحلة لا تُنسى في قلب التاريخ المغربي، حيث يحظى الزائرون بحفاوة السكان المحليين ويختبرون دفء الترحيب والتقاليد التي صانتها الأجيال عبر القرون، وهكذا تبقى فاس، بأسوارها وأبوابها، رمزًا حيًا للحضارة المغربية الأصيلة.