تعرف على خبايا موسيقى كناوة الأصيلة
ما يميز المهرجان أنه لا يقتصر على الحفلات الموسيقية فقط، بل يشكل أيضاً جسراً للتواصل بين الثقافات، إذ يختلط الإيقاع الكناوي العريق مع أنغام الجاز والبلوز، لذلك أصبح المهرجان رمزاً للتسامح والتعايش، وجعل الصويرة واجهة سياحية تعكس انفتاح المغرب وغنى تراثه الفني.
جذور الموسيقى الكناوية وأصلها التاريخي
الموسيقى الكناوية وُلدت من رحم التلاقح بين الثقافة الأفريقية جنوب الصحراء والروح المغربية، حيث جلب العبيد الأفارقة معهم طقوساً وإيقاعات تحولت مع مرور الزمن إلى جزء من هوية المغرب، ثم انتشرت هذه الموسيقى في مدن عدة، لكن الصويرة والرباط ومراكش شكلت مراكز رئيسية لها و اكتست شعبية كبيرة و أصبحت جزءا مهما من التراث و الحضارة المغربية الأصيلة.
تعتمد الموسيقى الكناوية على آلة الكمبري "العود التقليدي" المصنوع من الخشب والجلد، إضافة إلى القراقب المعدنية التي تضفي إيقاعاً مميزاً، لدلك فدورها لا يقتصر على الترفيه، بل تحمل بُعداً روحياً عميقاً، حيث تُستخدم في الطقوس الصوفية وحفلات الليلة التي تجمع بين الذكر والإنشاد والرقص الجماعي.
الصويرة: مدينة الرياح تحتضن الحدث العالمي
عرفت الصويرة منذ القدم بدورها كميناء تجاري يربط المغرب بأفريقيا وأوروبا، ما جعلها مركزاً للتبادل الثقافي، حيث بفضل أجوائها الفريدة و موقعها المميز و ثقافتها المتنوعة و عمارتها العريقة، تم إدراجها في قائمة التراث العالمي لليونسكو، وهو ما عزز مكانتها كوجهة للفنانين والسياح.
هذه الخصوصية جعلت الصويرة المكان المثالي لاحتضان مهرجان كناوة، فهي مدينة صغيرة لكن ذات روح كبيرة، حيث أن شوارعها الضيقة وأسوارها التاريخية تتحول خلال أيام المهرجان إلى مسارح مفتوحة تعج بالزوار، مما يمنح الحدث طابعاً فريداً يصعب أن نجده في أي مدينة أخرى.
ولادة مهرجان كناوة وموسيقى العالم
جدول يلخص أهم المحطات في تاريخ المهرجان
السنة |
الحدث
البارز |
1998 |
انطلاق أول
دورة للمهرجان |
2003 |
بداية
مشاركة فنانين عالميين من أمريكا وأوروبا |
2012 |
تجاوز عدد
الزوار نصف مليون شخص |
2019 |
إدراج فن
كناوة ضمن قائمة التراث اللامادي لليونسكو |
2022 |
عودة قوية
بعد جائحة كورونا |
التمازج الموسيقي: لقاء الشرق والغرب
حوار موسيقي بلا حدود
مهرجان كناوة بالصويرة لا يكتفي بعرض التراث الكناوي في صورته التقليدية، بل يفتح الأبواب أمام لقاءات موسيقية غير متوقعة، فعندما يجتمع معلم كناوي مع عازف جاز أمريكي أو موسيقي من أوروبا، يتحول العرض إلى فضاء للتجريب الفني والبحث عن لغة جديدة تولد من قلب التمازج.
هذا الانفتاح جعل الجمهور يعيش لحظات نادرة حيث تذوب الحدود بين القارات والثقافات، فمن إيقاعات "الكمبري" العميقة، إلى نغمات الساكسفون والبيانو أو إيقاعات الطبول الإفريقية، تتشكل فسيفساء موسيقية تعكس وحدة الإنسان في تنوعه.
لحظات استثنائية على الخشبة
أجمل ما يميز هذه اللقاءات هو عنصر الارتجال والإلهام اللحظي، فأحياناً يكفي أن يبدأ المعلم بعزف لحن تقليدي بسيط حتى يلتحق به عازف غيتار أو آلة نفخ، فينشأ حوار فني مباشر يولد موسيقى جديدة أمام أعين الحاضرين.
وقد شهدت الدورات السابقة لحظات خالدة، مثل لقاء المعلم عبد الكبير مرشان مع عازف الساكسفون الأمريكي أرشي شيب، أو تعاون المعلم عمر حياة مع موسيقيين من مالي وفرنسا، حيث أن هذه التجارب جعلت المهرجان مدرسة عالمية في كيفية جمع الأصالة بالتجديد، وأكدت أن الموسيقى قادرة على تجاوز كل الفوارق.
البعد الروحي والرمزي في الإيقاعات الكناوية
الإيقاعات الكناوية لا تُعزف لمجرد الترفيه أو الاستعراض، بل تحمل في طياتها بعداً روحياً عميقاً يعود إلى قرون من التقاليد الصوفية والأفريقية، فالليلة الكناوية، أو ما يُعرف بـ "الليلة الروحية"، تعد لحظة تطهير داخلي، حيث يذوب المشاركون في عالم من الموسيقى والرموز والألوان حتى ساعات الفجر الأولى، ففي هذا الفضاء، تتحول الموسيقى إلى وسيلة للصفاء النفسي وطلب البركة، وتجربة وجدانية تلامس الروح قبل الأذن.
ما يجعل هذه التجربة مميزة هو أن الإيقاعات تتداخل مع طقوس وحركات جسدية تحمل دلالات قوية، مثل ارتداء ألوان رمزية مرتبطة بالأولياء أو استعمال آلات تقليدية ك "الكمبري" و "القراقب"، و كل عنصر فيها يرمز إلى قيمة روحية أعمق، وهو ما يجعل الكناوة أكثر من مجرد موسيقى، بل طقس متكامل يجمع بين الفن والدين والتاريخ.
![]() |
أبرز الآلات التي تشكل هوية الموسيقى الكناوية |
معاني الإيقاعات الكناوية: أبعاد متعددة
الشفاء الروحي
تستعمل الإيقاعات الكناوية منذ القدم في جلسات العلاج بالطاقة، حيث يُعتقد أن التكرار الإيقاعي يساعد على إدخال المستمع في حالة من الصفاء الذهني تشبه التأمل، و هذه اللحظات تتيح للفرد التحرر من الضغوط النفسية، كما يراها البعض وسيلة للتخلص من "الطاقة السلبية" وإعادة التوازن الداخلي.
التواصل مع الأجداد
يحمل التراث الكناوي ذاكرة قوية للعبودية والهجرة الأفريقية القديمة، فعبر الطبول والأغاني الروحانية، يستحضر المشاركون أرواح الأجداد، وكأنهم يربطون الماضي بالحاضر، مما يجعل هذا البعد الموروث الكناوي بمثابة جسر يربط الأجيال السالفة مع الحاضرة، ويحافظ على هوية جماعية متجذرة في التاريخ الأفريقي.
التعبير عن الحرية
الرقص الكناوي ليس مجرد حركة جسدية، بل تعبير عن الانعتاق والتحرر، فعندما يدور الجسد في انسجام مع الإيقاعات يشعر الراقص وكأنه يتحرر من القيود اليومية، سواء كانت نفسية أو اجتماعية، و هذا الشعور بالانطلاق يجعل المشاركين يعيشون تجربة فريدة من الحرية المطلقة.
التسامح والتعايش
من أبرز معاني الطقس الكناوي أنه يجمع الناس من خلفيات متعددة حول دائرة واحدة من الموسيقى، فالمغاربة والسياح المسلمون وغير المسلمين، الكبار والصغار، يجدون أنفسهم جزءاً من تجربة واحدة، وهذا يعكس قيم التسامح والانفتاح التي يحملها هذا التراث، حيث تتحول الموسيقى إلى لغة عالمية للتقارب الإنساني.
إشعاع المهرجان وأثره على السياحة المغربية
يستقطب المهرجان سنوياً مئات الآلاف من الزوار، منهم عشاق الموسيقى والسياح الأجانب الذين يتعرفون على المغرب من زاوية ثقافية فريدة، و هذا التدفق الكبير ينعش اقتصاد المدينة، حيث تمتلئ الفنادق والمطاعم وتزدهر الأنشطة التجارية.
كما ساهم المهرجان في تلميع صورة المغرب على الصعيد الدولي، حيث أصبح موضوعاً للتغطية الإعلامية في كبريات القنوات والصحف العالمية، وبهذا نجح في تقديم الثقافة الكناوية كرمز للانفتاح والتعددية الثقافية التي يزخر بها المغرب، و ساعد في تنمية السياحة في المغرب.
![]() |
أجواء احتفالية في مهرجان كناوة بالصويرة حيث يلتقي الجمهور مع التراث الموسيقي |
مستقبل مهرجان كناوة في ظل التحولات الثقافية
رغم النجاح الكبير الذي حققه المهرجان، فإنه يواجه تحديات أبرزها المنافسة مع المهرجانات العالمية الأخرى والتحولات في ذوق الأجيال الجديدة، لذلك فإن الحفاظ على أصالته مع مواكبة التطور يعد أمراً ضرورياً لضمان استمراريته.
المستقبل يحمل فرصاً واعدة، خصوصاً بعد إدراج الكناوة في قائمة التراث اللامادي لليونسكو، و هذا الاعتراف الدولي قد ساعد في تعزيز مكانة المهرجان، وتحويله إلى منصة دائمة للتبادل الثقافي والفني بين المغرب والعالم.
الخلاصة
لقد أثبت مهرجان كناوة بالصويرة أنه أكثر من كونه مجرد حدث موسيقي، فهو مساحة للالتقاء والتفاعل بين الثقافات، وجسر للتواصل بين الشعوب، و خلال أيامه، تتحول المدينة إلى قلب نابض بالإيقاعات والألوان، حيث يعيش الزائر تجربة لا تُنسى.
المهرجان اليوم هو شهادة على أن الموسيقى قادرة على تجاوز الحدود وبناء عالم أكثر تسامحاً وتنوعاً، ومع كل دورة جديدة يواصل كتابة فصول من قصة النجاح المغربي، ليبقى أسطورة الإيقاع العالمي التي يفتخر بها المغاربة ويستمتع بها العالم.
ما رأيك في موسيقى كناوة وأجواء مهرجان الصويرة؟ شاركنا رأيك وتجربتك في التعليقات، فصوتك يضيف نغمة جديدة لهذا الحوار!